كثير من الأجيال المعاصرة لا تعرف عن النوبة سوي
الأسم فقط ، لعدم رؤية النوبة القديمة خلف السد
ومعرفة كل ظواهره وخصوصيته وعاداته وتقاليده المتوارثة
منذ زمان الأســـلاف .
كان مناخ النوبة قديماً صحي جداً برغم قسوة الطبيعة والمكان
وشدة الحرارة في فصل الصيف لاسيماً في البقاع الصحروية الضيقة
، ولعل السر في ذلك جفاف الهواء والصحراء الشاسعة والجبال
الممتدة بقرب نهر النيل ، وكان أخطر الأمراض التي مرت بالنوبة
مرض الجدري ذلك المرض الفتاك الذي فتك بالناس من الشمال للجنوب
وفي كل أرجاءها بسبب قلة التطعيم في النوبة والعزلة التي تعيش
فيها من أغلاق وحرص من دخول الغرباء اليها .
طبيعة الرجال في النوبة عموماً ذو أجسام قوية وتقاطيع وسيمة
وهم أقصر قليلاً من المصريين ، لا شوارب لهم ولحاهم صغيرة
ولا تتجاوزأسفل الذقن ، وكل ما كان الوادي كبير للزراعة
وميسور الأهالي علي سعة من الرزق تجد أطول قامات وأضخم
أبداناً بعكس البقاع الصخرية والتي لا تتجاوز عرض الوادي
فيها عن عشرين يارة أو ثلاثين ويكاد بعض الرجال في القري
الضيقة هيكـلاً وهزيـلاً .
أما النســـاء فقد ذكر ( الرحالة بوركهارت )أنهن قامات بديعة
ووجوه طلقة وأن لم تكن جميلة في الشكل تجدها لطيفة في غاية اللطف ،
بل أنني رأيت بينهن نساءاً بارعات الجمال ولست أشك أن الجمال سمة
موجودة بينهن وأذا قل نسبة الجمال فذلك يعود للعمل الشاق الذي
يقمن به منذ الطفولة فشئون البيت كلها موكولة إليهن ، أما
الرجال في الزراعة والنساء في جلب المحاصيل والتربية والنظافة
ورعي الماشية والمشاركة في موسم الحصاد وبذر البذور ، لذا وجدت
نساء النوبة أعف نساء الشرق قاطبة وعفهن أجدر بالأشارة ، لما
كان ينتظر تأثرهن بالمجتمعات الأخري الذي يشتد فيها الرزيلة
والبغاء ، وفي أثناء مكثي في أسنا في ما بين 1798 إلي 1801 م
كان الفتيات يأتين إلي مسكني كل صباح لبيع اللبن وكانت المصريات
منهن يقتحمن فناء الدار في جراة ويسفرن عن وجوههن وهو مسلك
يفهم منه عرض أنفسهن للرزيلة ، أما النوبيات والكثير منهن يقمن
مع أسرهن في أسنا ويقفن علي أعتاب البيت متأدبات ولا يتجاوزنها
بحال من الأحوال ويأخذون ثمن اللبن وهن مقنعات .
ومن الأمور الجميلة أن يدفع الكنزي عادة أثني عشر محبوباً ثمناً
لعروسه وهو ما يعادل 36 قرش ، ويقل ذلك المبلغ في المناطق
النوبية الأخري وقد تزوج العبابدة الكثير في بلاد النوبة وكان
مهر العروسة 6 أبل تعطي لأبيها ثلاثة أبل وتأخذ هي الثلاثة
الباقية مع زوجها وأذا طلقت أخذ الزوج ثمن نصفها وأذا أصرت
المرأة علي الطلاق يستولي الزوج علي كل جهازها وتحلق المرأة
رأسها ، مع أن الطلاق كان نادر الحدوث في ذلك الزمان .
تقوم النساء في النوبة بعمل الأنوال الصغيرة لغزل العباءات
من الصوف الخشن والقماش القطني يصنعون منه القمصان وكذلك
يصنعون من سعف النخيل الحصير ( البرش ) والأطباق التي توضع
غطاءللخبز والصواني والسلات التي يوضع فيها البلح والفشار
والحلويات وسلات كبيرة لحمل الأشياء فيها والتخزين ، ويصنعون
من بواقي الأقمشة سجاد للصلاة والفرش للجلوس عليها وتزين
الغرف الداخلية للبيت النوبي .
النوبيين يتصفون بالرقة واللطف والعزوف عن السرقة وهي رزيلة
معروفة في باقي المجتمعات المصرية وخصوصاً الأقاليم الواقعة شمال
أسيوط ، وتكون معدومة لان حكمها في بلاد النوبة النبذ والطرد
النهائي بدون رجعة من القرية وكل البلاد الأخري بالأجماع .
أما الكرم وحسن الضيافة سمة معروفة في كل البلاد النوبية
أما الكنوز والسكوت لهم طباع الفضول في سؤال الغريب القادم
اليهم بوابل من الأسئلة والأستفسار والمهمة التي جاءوا من أجلها .
يمتاز النوبيين بالجراة وحب الأستقلال وشدة التعلق بالأرض والحفاظ
علي التراث والهوية واللغة ، ومنهم مما يدرك اللغة العربية يحافظ
علي الصلوات كل يوم وأما من يجهل الحديث بالعربية يصلي ولكن
لا يعرف غير التهليل والتكبير ، وقد حج الكثير منهم عبر طريق
سواكن مكة .
كان سكان النوبة من أسوان إلي حدود المحس الجنوبية عبر أقليم
طوله 500 ميل ومتوسط عرضه نصف ميل وبعد سكان يتجاوز
المائة وخمسين ألف شخص في ذلك الزمان .
عندما يشب الطفل في النوبة يعدو لهمـه الأول بشراء مدية معقوفة
صغيرة يلبسها الرجال مشدودة إلي المرفق الأيسر تحت الثياب وعند
أنتقال النوبي من قرية إلي أخري يحمل معه العصا المكسو طرفها
بالحديد ( نبوت ) أو رمح ودقته وطول الرمح خمس أقدام بما فيه
سنه الحديدي ، أما الدرق فتتفاوت أحجامه فمنها المستدير
ذو السرة في وسطه ومنها ما يشبه الدروع المقدونية القديمة بطول
أربعة أقدام وله طرفان مقوسان يكادان تغطيه البدنة كله ،
وتصنع الدرقات التي يبعها عرب الشاقية من جلود فرس البحر
ولا تؤثر فيها رمية رمح أو ضربة سيف ، وكذلك يعتني منهم
القادر مادياً علي شراء السيوف وهي شبيه بسيوف الفرسان
في القرون الوسطي لها نصل طويل ومستقيم عرضه بوصتان والمقبض
علي شكل الصليب وقرابها من الطراز بعرض أسفاه ويدق رأسه
وهي صناعة ألمانية كان يبعها التجار المصريين للنوبيين بأسعار
تترواح ما بين أربعة إلي ثمانية ريال للسيف أثناء قدومهم إلي